'cookieOptions = {...};' بلند الحيدري شاعر «الوقت الضائع» "جريدة الحياة " - بيت الإبداع " أثار العابرين للأدب والثقافة" بلند الحيدري شاعر «الوقت الضائع» "جريدة الحياة " - بيت الإبداع " أثار العابرين للأدب والثقافة"

كتاب


بلند الحيدري شاعر «الوقت الضائع» "جريدة الحياة "

50c0403e2dda4a45906ed0a57b37e555


إنه من الشعراء القلائل، شعراء البصمة والسمة الخاصتين. شاعر رائد نافس أقرانه من دون ضجيج وادّعاء. بهدوء، كتب ونشر وعمل وعاش. صنع حياته المثالية كما يريد. لم ينل تعليماً منظماً مثل نظرائه من الشعراء الرواد، أمثال بدر شاكر السيّاب والبياتي ونازك الملائكة، تلك المجموعة التي تخرجت من «دار المعلمين العالية « أو ما تعرف حالياً بـ «كلية الآداب». إنما جاءهم من الشوارع الخلفية، من خلف أسوار الجامعة.

إنه شاعر القصائد القصار، في زمن المطوّلات مثل «الأسلحة والأطفال» و»المومس العمياء». لقد كانت القصيدة القصيرة المقتضبة هاجسه الجمالي وخياره الإبداعي وسبيله الخاص الذي نهجه وسار عليه، فعُرِف بها وعَرّف بمدنيّتها، في وقت كان الشعراء يكتبون عن القرى والحقول والمزارع والحنين اليها، وإلى مرابعها وبساتينها وطبيعتها الريفية، بينما كان بلند الحيدري يكتب عن «ساعي البريد» و«الحارس المتعب» وعن أقراص الأسبرين والفاليوم والمنزل البغدادي والمقهى البغدادي والشوارع الغاصّة بالراجلين. ولكنه أيضاً كان شاعر الغربة الوجودية بامتياز، الغربة في الحياة، وعبث العيش في ظلالها. لقد عكست المدينة عليه أيضاً ظلالها المأساوية، وأزماتها وغربتها وضياع البشر في أتونها، أمام ثنائية الموت والولادة.

الفكر الوجودي

ثقّف بلند الحيدري نفسه بنفسه، فتشرّب ثقافة الفكر الوجودي على قدْر ما استطاع أن يمتح منه، فنهل من ينابيع الفلسفة الوجودية عند ديكارت وسبينوزا وكانط، ومن ثم هايدغر وسارتر وكامو، وسعى ليتعلم اللغة الإنكليزية أيضاً على نفسه، وقد شجعه على التزام هذا الطريق الناقد جبرا ابراهيم جبرا، صديقه الحميم، والناقد والمستشرق الإنكليزي الذي كان يعيش ويدرّس في جامعات بغداد، ديزموند ستيوارت، الذي ترجم له بعضاً من قصائده الى الإنكليزية. وفعلاً نال بلند الحيدري قسطاً من الإنكليزية وترجم عنها للشاعر تي أس اليوت «الأرض الخراب».

أفاد بلند الحيدري في مطلع حياته الأدبية من صحبته للنخب المثقفة التي كانت تعيش تلك الآونة الذهبية، فكان صديقاً حميماً للرسامين الكبار من أمثال جواد سليم ونزيهة سليم ولورنا سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد وكاظم حيدر، والنحاتين مثل محمد غنمي حكمت وفتاح الترك وخالد الرحال، والمعماريين المشهورين مثل الجادرجي وقحطان المدفعي وعدنان رؤوف وغيرهم من الفنانين الذائعين، اولئك الذين أمدوا الحداثة بأساليبهم وأطوارهم وأشكالهم الفنية. ونتيجة مزاملته لهم ومعرفته بهم وبأسرار فنهم وطرائقهم الإبداعية، ساهمت تلك الصحبة في جعل بلند الحيدري ناقداً فنياً له صوته المعروف، وقلمه النافذ أسلوبه الحاذق في نقد «جماعة الفن الحديث» التي تأسست في تلك البرهة. هذا إضافة إلى مشاركته في تأسيس جماعة «الوقت الضائع» التي كانت تنادي بالعدم والعبث واللا جدوى وتصريف الوقت في الشارع والمقهى ودور السينما، والابتعاد عن الرغد والهناءة والطمأنينة وعادات القبول واللياقة التي كانت تسود الطبقة المخملية في المجتمع العراقي آنذاك. علماً أنّ بلند نفسه كان يتحدّر من هذه الشريحة المنعّمة، فخاله كان وزيراً، ووالده موظفاً كبيراً، وجدّه من أرومة كردية رغيدة ذات جذور أرستقراطية، لكنّ بلند ضرب عرض الحائط بكلّ تلك المباذل التي سادت عائلته وعائلة زوجته - السيدة دلال المفتي - التي تتحدّر من أصول شامية متمكنة. غير أنّ بلند لم يمل أو يستسغ تلك المواضعات البورجوازية التي عُرفتْ بها العوائل البغدادية إبّان الفترة الملكية التي شهدت تحولات الحداثة وطفراتها على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

من هنا رأينا بلند، ينطلق هو وأصحابه، وجلّهم كان قد نال قسطاً كبيراً من التعليم الممنهج، مثل الناقد الأدبي نهاد التكرلي خريج السوربون الفرنسية، وأخيه فؤاد التكرلي الروائي والقاضي المعروف، وعبد الملك نوري رائد القصة العراقية، والديبلوماسي المتخرج من إحدى الجامعات الأميركية في الأربعينات، ما خلا صديقه الأثير القادم من ديالى حسين مردان، ذلك الشاعر المتمرد والملعون الذي نال شهرة أدبية كبيرة لا تقل عن شهرة صديقه بلند الحيدري.

فنّ الشارع

لقد أسس هؤلاء لفن الحياة والشارع، وانغمسوا في حياة الليل واللهو والشراب، مستغلين جمال بغداد آنذاك وأمنها ووداعة الحياة فيها والبساطة الجارية في كل قنواتها اليومية، من رسم وشعر وقراءات في المقاهي وفي الساحات والشوارع (رسم سكيتشات للحياة البغدادية، تخطيطات للوجوه ولزبائن مقهى السويسرية ومقهى البرازيلية الكائنين في عقد النصارى التابع لشارع الرشيد). ترجمات وقراءات لكولن ولسن عبر ترجمات «اللا منتمي» و «ضياع في سوهو» ثم «الغريب» لألبير كامو التي قام بترجمتها أحد المنتمين لشلّة «الوقت الضائع» إياها، أو مستعينين بترجمات سهيل إدريس صاحب «الحي اللاتيني» وعبد الرحمن بدوي صاحب ترجمة الكتاب الشهير لسارتر «الوجود والعدم».

لذلك عثرنا نحن في مطلع السبعينات على بعض تلك الكتب والدواوين التي رسمها جواد سليم لبلند الحيدري والسياب وحسين مردان صاحب «طراز خاص» مصحوبة ببورتريهات شخصية لهم تتوج الغلاف الأول أو الغلاف الأخير، فضلاً عن التخطيطات التي حفلتْ بها تلك الدواوين النادرة والرسومات التي أرّخت لفترة نادرة ومثالية، فترة كانت من أجمل الفترات التي أسست للحداثة في كل حقولها الجمالية، الشعرية والتشكيلية والمسرحية والروائية والقصصية، وحتى الموسيقية، أيام الموسيقار سلمان شكر والأخوين جميل بشير ومنير بشير وفريد الله ويردي ومن تحدروا من تاريخ الموسيقى التقنية التي دعا وأسس لها الموسيقار وأستاذ الموسيقى الشهير الشريف محي الدين حيدر، في تلك اللحظة الزمنية من تطور مشروع العراق الحديث في الفترة الملكية الآنفة.

إذاً نشأ بلند الحيدري وسط هذه الأجواء، وسط أطوار التحولات الأولية، النشأة والبناء والتطوّر لتأسيس البنى الجمالية للمدينة والحاضرة بغداد، لهذا نستطيع أن نصفه بأنه أحد المؤسسين والبنّائين الأوائل، الذي بدأ بناءه بـ «خفقة الطين» ثم «أغاني المدينة الميّتة» و «خطوات في الغربة»، تلك الغربة التي أرخت لرحيله الدائم وابتعاده عن المدينة التي أحبها بغداد، حيث رحل بعد معاناته مع البعثيين الذين لم يتركوه لشأنه وهو المستقل الليبرالي، الذي لم ينتمِ في حياته الى حزب، بل كان مناصراً وصديقاً للشيوعيين، حيث كان ينخرط أغلب أصحابه من الأدباء والفنانين في خلايا الحزب النشطة إبان تلك الفترة من الخمسينات، حتى اعتقل بتهمة الشيوعية، ولكنه سرعان ما أفرج عنه بوساطات، ليرحل بعد ذلك الى بيروت، بادئاً حياة جديدة، متواضعة على الصعيد الحياتي ولكنها لامعة ومتألقة على الصعيد الثقافي والأدبي. عمل في الصحافة اللبنانية وكتب وشارك في تحرير مجلات، من ضمنها مجلة «مواقف»، وساهم في متابعة الفنون التشكيلية ناقداً ومتابعاً لنشاطاتها في تلك المرحلة التنويرية من فترة الستينات البيروتية، وعمل مديراً لمدرسة متوسطة في «برمانا» هو الذي لم يحمل شهادة علمية تؤهله لمثل هذا العمل، غير أنه كان يحمل لغته العربية المتقدمة وثقافته الحديثة وسعة المعرفة التي تمتع بها على صعيد الفنون بعامة، وبخاصة التشكيلية منها، فضلاً عن دماثة الخلق والمعشر واللطف والأناقة الواضحة في الحديث والمظهر العام واللياقة الاجتماعية.

رحل صاحب «حوار عبر الأبعاد الثلاثة» وهو في سن السبعين، بعدما أضناه قلبه وخذله في غير مرة، حتى صرعه في سكتة أبدية وهو على سرير العلاج في العاصمة البريطانية لندن، حالماً بعراق جميل ومتآخ ومتكافل اجتماعياً، ونامياً اقتصادياً ومبنياً على أسس ديموقراطية، يكفل فيه الدستور حقوق المواطنة، بعد غياب الديكتاتورية وحكم الطاغية.

كان بلند محظوظاً ربما في غيابه المبكر الذي لم يدعه يكمل المشوار ليرى في ما بعد المصائب الجديدة في عراق الاحتلال والنظام الطائفي الجديد، ربما كان محظوظاً صاحب المونولوغ الداخلي، الهامس والمتميز بابتسامة هنية، تدل على هناءة زمن مضى ولن يعود، ليرى ما نراه الآن.

لقد مضى بلند من دون أن يعتني أحد بإرثه وأوراقه ومكاتباته ورسائله ووثائقه الفنية والأدبية، كانت لديه رسائل ومخاطبات مع جميع رجالات الفن والأدب والفكر العربي، اين هي الآن؟ سؤال يحضر لا سيما بعد غياب شريكة حياته الفنانة التشكيلية دلال المفتي، التي أصرّت على حفظ إرث بلند الحيدري، وكذلك اللوحات الثمينة التي كان يمتلكها أين هي الآن؟ هل هي مع ولدهم الوحيد عمر الذي يقيم في كندا؟ أم ضاعت هباء في هذه الأزمنة الرمادية، أزمنة الخوف والرعب والفوضى.

ليست هناك تعليقات